سورة إبراهيم - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (إبراهيم)


        


{وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)}
قوله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا} أي واستنصروا، أي أذن للرسل في الاستفتاح على قومهم، والدعاء بهلاكهم، قاله ابن عباس وغيره، وقد مضى في البقرة. ومنه الحديث: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يستفتح بصعاليك المهاجرين، أي يستنصر.
وقال ابن زيد: استفتحت الأمم بالدعاء كما قالت قريش: {اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال: 32] الآية. وروي عن ابن عباس. وقيل قال الرسول: «إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً» وقالت الأمم: إن كان هؤلاء صادقين فعذبنا، عن ابن عباس أيضا، نظيره {ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [العنكبوت: 29] {ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 77]. {وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} الجبار المتكبر الذي لا يري لأحد عليه حقا، هكذا هو عند أهل اللغة، ذكره النحاس. والعنيد المعاند للحق والمجانب له، عن ابن عباس وغيره، يقال: عند عن قومه أي تباعد عنهم.
وقيل: هو من العند، وهو الناحية وعاند فلان أي أخذ في ناحية معرضا، قال الشاعر:
إذا نزلت فاجعلوني وسطا *** إني كبير لا أطيق العنّدا
وقال الهروي قوله تعالى: {جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أي جائر عن القصد، وهو العنود والعنيد والعاند، وفي حديث ابن عباس وسيل عن المستحاضة فقال: إنه عرق عاند. قال أبو عبيد: هو الذي عند وبغى كالإنسان يعاند، فهذا العرق في كثرة ما يخرج منه بمنزلته.
وقال شمر: العاند الذي لا يرقأ.
وقال عمر يذكر سيرته: أضم العنود، قال الليث: العنود من الإبل الذي لا يخالطها إنما هو في ناحية أبدا، أراد من هم بالخلاف أو بمفارقة الجماعة عطفت به إليها.
وقال مقاتل: العنيد المتكبر.
وقال ابن كيسان: هو الشامخ بأنفه.
وقيل: العنود والعنيد الذي يتكبر على الرسل ويذهب عن طريق الحق فلا يسلكها، تقول العرب: شر الإبل العنود الذي يخرج عن الطريق.
وقيل: العنيد العاصي.
وقال قتادة: العنيد الذي أبي أن يقول لا إله إلا الله. قلت: والجبار والعنيد في الآية بمعنى واحد، وإن كان اللفظ مختلفا، وكل متباعد عن الحق جبار وعنيد أي متكبر.
وقيل: إن المراد به في الآية أبو جهل، ذكره المهدوي. وحكى الماوردي في كتاب أدب الدنيا والدين أن الوليد بن يزيد بن عبد الملك تفاءل يوما في المصحف فخرج له قوله عز وجل: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} فمزق المصحف وأنشأ يقول:
أتوعد كل جبار عنيد *** فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر *** فقل يا رب مزقني الوليد
فلم يلبث إلا أياما حتى قتل شر قتلة، وصلب رأسه على قصره، ثم على سور بلده. قوله تعالى: {مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ} أي من وراء ذلك الكافر جهنم، أي من بعد هلاكه. ووراء بمعنى بعد، قال النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة *** وليس وراء الله للمرء
مذهب أي بعد الله جل جلاله، وكذلك قول تعالى: {وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ} أي من بعده، وقوله تعالى: {وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ} [البقرة: 91] أي بما سواه، قاله الفراء.
وقال أبو عبيد: بما بعده: وقيل: {من ورائه} أي من أمامه، ومنه قول الشاعر:
ومن ورائك يوم أنت بالغه *** لا حاضر معجز عنه ولا بادي
وقال آخر:
أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي *** وقومي تميم والفلاة ورائيا
وقال لبيد:
أليس ورائي إن تراخت منيتي *** لزوم العصا تحني عليها الأصابع
يريد أمامي.
وفي التنزيل: {كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف: 79] أي أمامهم، وإلى هذا ذهب أبو عبيدة وأبو علي قطرب وغيرهما.
وقال الأخفش: هو كما يقال هذا الأمر من ورائك، أي سوف يأتيك، وأنا من وراء فإن أي في طلبه وسأصل إليه.
وقال النحاس في قول: {مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ} أي من أمامه، وليس من الأضداد ولكنه من تواري، أي استتر.
وقال الأزهري: إن وراء تكون بمعنى خلف وأمام فهو من الأضداد، وقاله أبو عبيدة أيضا، واشتقاقهما مما توارى واستتر، فجهنم توارى ولا تظهر، فصارت من وراء لأنها لا ترى، حكاه ابن الأنباري وهو حسن. قوله تعالى: {وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ} أي من ماء مثل الصديد، كما يقال للرجل الشجاع أسد، أي مثل الأسد، وهو تمثيل وتشبيه.
وقيل: هو ما يسيل من أجسام أهل النار من القيح والدم.
وقال محمد بن كعب القرظي والربيع بن أنس: هو غسالة أهل النار، وذلك ماء يسيل من فروج الزناة والزواني.
وقيل: هو من ماء كرهته تصد عنه، فيكون الصديد مأخوذا من الصد.
وذكر ابن المبارك، أخبرنا صفوان بن عمرو عن عبيد الله بن بسر عن أبي أمامة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ} قال: «يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره يقول الله: {وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ} [محمد: 15] ويقول الله: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ}
[الكهف: 29]» خرجه الترمذي، وقال: حديث غريب، وعبيد الله بن بسر الذي روى عنه صفوان بن عمرو حديث أبي أمامة لعله أن يكون أخا عبد الله بن بسر. {يَتَجَرَّعُهُ} أي يتحساه جرعا لا مرة واحدة لمرارته وحرارته. {وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ} أي يبتلعه، يقال: جرع الماء واجترعه وتجرعه بمعنى. وساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغا إذا كان سلسا سهلا، وأساغه الله إساغة. و{يَكادُ} صلة، أي يسيغه بعد إبطاء، قال الله تعالى: {وَما كادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] أي فعلوا بعد إبطاء، ولهذا قال: {يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج: 20] فهذا يدل على الإساغة.
وقال ابن عباس: يجيزه ولا يمر به. {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ} قال ابن عباس: أي يأتيه أسباب الموت من كل جهة عن يمينه وشماله، ومن فوقه وتحته ومن قدامه وخلفه، كقوله: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16].
وقال إبراهيم التيمي: يأتيه من كل مكان من جسده حتى من أطراف شعره، للآلام التي في كل مكان من جسد.
وقال الضحاك: إنه ليأتيه الموت من كل ناحية ومكان حتى من إبهام رجليه.
وقال الأخفش: يعني البلايا التي تصيب الكافر في النار سماها موتا، وهي من أعظم الموت.
وقيل: إنه لا يبقى عضو من أعضائه إلا وكل به نوع من العذاب، لو مات سبعين مرة لكان أهون عليه من نوع منها في فرد لحظة، إما حية تنهشه، أو عقرب تلسبه، أو نار تسفعه، أو قيد برجليه، أو غل في عنقه، أو سلسلة يقرن بها، أو تابوت يكون فيه، أو زقوم أو حميم، أو غير ذلك من العذاب، وقال محمد بن كعب: إذا دعا الكافر في جهنم بالشراب فرآه مات موتات، فإذا دنا منه مات موتات، فإذا شرب منه مات موتات، فذلك قوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ}. قال الضحاك: لا يموت فيستريح.
وقال ابن جريج: تعلق روحه في حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة، ونظيره قوله: {لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى} [طه: 74].
وقيل: يخلق الله في جسده آلاما كل واحد منها كالم الموت.
وقيل: {وَما هُوَ بِمَيِّتٍ} لتطاول شدائد الموت به، وامتداد سكراته عليه، ليكون ذلك زيادة في عذابه. قلت: ويظهر من هذا أنه يموت، وليس كذلك، لقول تعالى: {لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها} [فاطر: 36] وبذلك وردت السنة، فأحوال الكفار أحوال من استولى عليه سكرات الموت دائما، والله أعلم. {وَمِنْ وَرائِهِ} أي من أمامه. {عَذابٌ غَلِيظٌ} أي شديد متواصل الآلام من غير فتور، ومنه قوله: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123] أي شدة وقوه.
وقال فضيل بن عياض في قول الله تعالى: {وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ} قال: حبس الأنفاس.


{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)}
اختلف النحويون في رفع {مَثَلُ} فقال سيبويه: ارتفع بالابتداء والخبر مضمر، التقدير: وفيما يتلى عليكم أو يقص {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} ثم ابتدأ فقال: {أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ} أي كمثل رماد {اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ}.
وقال الزجاج: أي مثل الذين كفروا فيما يتلى عليكم أعمالهم كرماد، وهو عند الفراء على إلغاء المثل، التقدير: والذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد. وعنه أيضا أنه على حذف مضاف، التقدير: مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد، وذكر الأول عنه المهدوي، والثاني القشيري والثعلبي ويجوز أن يكون مبتدأ كما يقال: صفة فلان أسمر، ف {مَثَلُ} بمعنى صفة. ويجوز في الكلام جر {أَعْمالُهُمْ} على بدل الاشتمال من {الَّذِينَ} واتصل هذا بقوله: {وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} والمعنى: أعمالهم محبطة غير مقبولة. والرماد ما بقي بعد احتراق الشيء، فضرب الله هذه الآية مثلا لأعمال الكفار في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف. والعصف شدة الريح، وإنما كان ذلك لأنهم أشركوا فيها غير الله تعالى.
وفي وصف اليوم بالعصوف ثلاثة أقاويل: أحدها- أن العصوف وإن كان للريح فإن اليوم قد يوصف به، لأن الريح تكون فيه، فجاز أن يقال: يوم عاصف، كما يقال: يوم حار ويوم بارد، والبرد والحر فيهما. والثاني- أن يريد {فِي يَوْمٍ عاصِفٍ} الريح، لأنها ذكرت في أول الكلمة، كما قال الشاعر:
إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف يريد كاسف الشمس فحذف، لأنه قد مر ذكره، ذكرهما الهروي. والثالث- أنه من نعت الريح، غير أنه لما جاء بعد اليوم أتبع إعرابه كما قيل: جحر ضب خرب، ذكره الثعلبي والماوردي. وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن أبي بكر {في يوم عاصف}. {لا يَقْدِرُونَ} يعني الكفار. {مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ} يريد في الآخرة، أي من ثواب ما عملوا من البر في الدنيا، لإحباطه بالكفر. {ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} أي الخسران الكبير، وإنما جعله كبيرا بعيدا لفوات استدراكه بالموت. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} الرؤية هنا رؤية القلب، لأن المعنى: ألم ينته علمك إليه؟. وقرأ حمزة والكسائي- خالق السماوات والأرض. ومعنى {بِالْحَقِّ} ليستدل بها على قدرته. {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أيها الناس، أي هو قادر على الإفناء كما قدر على إيجاد الأشياء، فلا تعصوه فإنكم إن عصيتموه {يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} أفضل وأطوع منكم، إذ لو كانوا مثل الأولين فلا فائدة في الإبدال. {وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} أي منيع متعذر.


{وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22)}
قوله تعالى: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً} أي برزوا من قبورهم، يعني يوم القيامة. والبروز الظهور. والبراز المكان الواسع لظهوره، ومنه امرأة برزة أي تظهر للناس، فمعنى، {بَرَزُوا} ظهروا من قبورهم. وجاء بلفظ، الماضي ومعناه الاستقبال، وأتصل هذا بقوله: {وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أي وقاربوا لما استفتحوا فأهلكوا، ثم بعثوا للحساب فبرزوا لله جميعا لا يسترهم عنه ساتر. {لِلَّهِ} لأجل أمر الله إياهم بالبروز. {فَقالَ الضُّعَفاءُ} يعني الأتباع {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} وهم القادة. {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً} يجوز أن يكون تبع مصدرا، التقدير: ذوي تبع. ويجوز أن يكون تابع، مثل حارس وحرس، وخادم وخدم، وراصد ورصد، وباقر وبقر. {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ} أي دافعون {عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أي شيئا، و{مِنْ} صلة، يقال: أغني عنه إذا دفع عنه الأذى، وأغناه إذا أوصل إليه النفع. {قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ} أي لو هدانا الله إلى الإيمان لهديناكم إليه.
وقيل: لو هدانا الله إلى طريق الجنة لهديناكم إليها. وقيل، لو نجانا الله من العذاب لنجيناكم منه. {سَواءٌ عَلَيْنا} هذا ابتداء خبره {أَجَزِعْنا} أي: {سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ} أي من مهرب وملجأ. ويجوز أن يكون بمعنى المصدر، وبمعنى الاسم، يقال: حاص فلان عن كذا أي فر وزاغ يحيص حيصا وحيوصا وحيصانا، والمعنى: ما لنا وجه نتباعد به عن النار. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «يقول أهل النار إذا أشتد بهم العذاب تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلما رأوا أن ذلك لا ينفعهم قالوا هلم فلنجزع فيجزعون ويصيحون خمسمائة عام فلما رأوا أن ذلك لا ينفعهم قالوا: {سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ}».
وقال محمد بن كعب القرظي: ذكر لما أن أهل النار يقول بعضهم لبعض: يا هؤلاء! قد نزل بكم من البلا والعذاب ما قد ترون، فهلم فلنصبر، فلعل الصبر ينفعنا كما صبر أهل الطاعة على طاعة الله فنفعهم الصبر إذ صبروا، فأجمعوا رأيهم على الصبر فصبروا، فطال صبرهم فجزعوا، فنادوا: {سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ}
أي منجي، فقام إبليس عند ذلك فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} يقول: لست بمغن عنكم شيئا {وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} الحديث بطوله، وقد كتبناه في كتاب التذكرة بكماله. قوله تعالى: {وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} قال الحسن: يقف إبليس يوم القيامة خطيبا في جهنم على منبر من نار يسمعه الخلائق جميعا. ومعنى: {لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} أي حصل أهل الجنة في الجنة واهل النار في النار، على ما يأتي بيانه في مريم عليها السلام. {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} يعني البعث والجنة والنار وثواب المطيع وعقاب العاصي فصدقكم وعده، ووعدتكم أن لا بعث ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب فأخلفتكم. وروي ابن المبارك من حديث عقبة بن عامر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الشفاعة قال: «فيقول عيسى أدلكم على النبي الأمي فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي من أطيب ريح شمها أحد حتى آتي ربي فيشفعني ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ثم يقول الكافرون قد وجه المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا فيقولون ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه فيقولون قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فاشفع لنا فإنك أضللتنا فيثور مجلسه من أنتن ريح شمها أحد ثم يعظم نحيبهم ويقول عند ذلك: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} الآية». {وَعْدَ الْحَقِّ} هو إضافة الشيء إلى نعته كقولهم: مسجد الجامع، قال الفراء قال البصريون: وعدكم وعد اليوم الحق أو وعدكم وعد الوعد الحق فصدقكم، فحذف المصدر لدلالة الحال. {وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ} أي من حجة وبيان، أي ما أظهرت لكم حجة على ما وعدتكم وزينته لكم في الدنيا، {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} أي أغويتكم فتابعتموني.
وقيل: لم أقهركم على ما دعوتكم إليه. {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ} هو استثناء منقطع، أي لكن دعوتكم بالوسواس فاستجبتم لي باختياركم، {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} وقيل: {وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ} أي على قلوبكم وموضع إيمانكم لكن دعوتكم فاستجبتم لي، وهذا على أنه خطب العاصي المؤمن والكافر الجاحد، وفية نظر، لقوله: {لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} فإنه يدل على أنه خطب الكفار دون العاصين الموحدين، والله أعلم. {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} إذا جئتموني من غير حجة. {ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} أي بمغيثكم. {وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} أي بمغيثي. والصارخ والمستصرخ هو الذي يطلب النصرة والمعاونة، والمصرخ هو المغيث. قال سلامة بن جندل:
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع *** وكان الصراخ له قرع الظنابيب
وقال أمية بن أبي الصلت:
ولا تجزعوا إني لكم غير مصرخ *** وليس لكم عندي غناء ولا نصر
يقال: صرخ فلان أي استغاث يصرخ صرخا وصراخا وصرخة. واصطرخ بمعنى صرخ. والتصرخ تكلف الصراخ. والمصرخ المغيث، والمستصرخ المستغيث، تقول منه: استصرخني فأصرخته. والصريخ صوت المستصرخ. والصريخ أيضا الصارخ، وهو المغيث والمستغيث، وهو من الأضداد، قاله الجوهري. وقراءة العامة {بِمُصْرِخِيَّ} بفتح الياء. وقرأ الأعمش وحمزة {بمصرخي} بكسر الياء. والأصل فيها بمصرخيين فذهبت النون للإضافة، وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة، فمن نصب فلأجل التضعيف، ولأن ياء الإضافة إذا سكن ما قبلها تعين فيها الفتح مثل: هواي وعصاي، فإن تحرك ما قبلها جاز الفتح والإسكان، مثل: غلامي وغلامتي، ومن كسر فلالتقاء الساكنين حركت إلى الكسر، لأن الياء أخت الكسرة.
وقال الفراء: قراءة حمزة وهم منه، وقل من سلم منهم عن خطأ.
وقال الزجاج: هذه قراءة رديئة ولا وجه لها إلا وجه ضعيف.
وقال قطرب: هذه لغة بني يربوع يزيدون على ياء الإضافة ياء. القشيري: والذي يغني عن هذا أن ما يثبت بالتواتر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا يجوز أن يقال فيه هو خطأ أو قبيح أو ردئ، بل هو في القرآن فصيح، وفية ما هو أفصح منه، فلعل هؤلاء أرادوا أن غير هذا الذي قرأ به حمزة أفصح. {إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ}أي كفرت بإشراككم إياي مع الله تعالى في الطاعة، ف {لَمَّا} بمعنى المصدر.
وقال ابن جريج: إني كفرت اليوم بما كنتم تدعونه في الدنيا من الشرك بالله تعالى. قتادة: إني عصيت الله. الثوري: كفرت بطاعتكم إياي في الدنيا. {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
وفي هذه الآيات رد على القدرية والمعتزلة والإمامية ومن كان على طريقهم، انظر إلى قول المتبوعين: {لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ} وقول إبليس: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} كيف اعترفوا بالحق في صفات الله تعالى وهم في دركات النار، كما قال في موضع آخر: {كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها} [الملك: 8] إلى قوله: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} [الملك: 11] واعترافهم في دركات لظى بالحق ليس بنافع، وإنما ينفع الاعتراف صاحبه في الدنيا، قال الله عز وجل: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] و{عسى} من الله واجبة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8